21‏/07‏/2015

اكتئابولوجي (5)




أنت قلِق


أنت قلق، وأنت لا تشعر إلا بقليل من الراحة، وأنت تؤمن بأنك جئت إلى الحياة لتقلق، وأن قلقك سينتهي بعد الموت، وأنك سترتاح في الجنة لأن الله سيشفق على عمرك الطويل الذي بذلته قلِقًا ومُبْعدًا عن السكينة. فلتغيِّر رأيك؛ لأن هذا القلق الذي أنت في عمقِه سيهلكك، ولأن الله لا يجزي الأكثر قلقًا والأقل نومًا.. الله يجزي الأحسن عملًا، ومن أحسنُ ممن أحسن إلى نفسه ولنفسه؟
تمسُّكُك بذمِّ الدنيا الذي تقرأه في كتابك المقدس، تمسكك به ليؤيد قلقك ويدفعك إلى الكثير والكثير من الشقاء وقلة الحيلة، هو تمسك يخالف الغاية من هذا الكتاب الإلهي؛ وهي الرحمة والهدى والشفاء.. وكل ما لا تجد له قيمة في حياتك التعيسة التي ترجو بها رضى الله.
وعلى افتراض أنك لست متديِّنًا، فإن الطبيعة ظلمتك حين اختارتك قلِقًا واختارت جارك الأقرب مطمئنًا. وإنها لن تقدِّر لك هذه الحياة الفدائية، ولن تأبه بك.
إنني أركز بدايةً على منطقة الدين أو منطقة الاعتقاد؛ لأنني أرى أنها هي الأقرب والأقوى في حياتك. ولأنني، بلا شك، أشم رائحة تأثيرها فيك حين تبدو راضيا بما أنت فيه ومتحلِّيًا بالصبر. وللأسف لم أضع في خطة هذا الموضوع أنني سأقول لك "اصبِر.. هذا قدرُك" أو "هكذا جئت إلى الوجود، ولترضَ بحكم الطبيعة".
فلماذا القلق إذن؟
أتساءل أنا أيضا معك. لم نقلق؟ إننا نقلق لأننا لا نملك القوى المطلقة. هذا سبب، والسبب الآخر هو كوننا لا نعرف متى نموت. فعدم امتلاكنا للقوى المطلقة يجعلنا قلقين على صحتنا إذْ لا نملك لها الشفاء. وقلقين على أحبابنا إذْ لا نستطيع أن نضمن بقاءهم بخير. وقلقين من أموالنا إذْ لا نعلم متى نحتاج إليها. وعدم معرفتنا بساعة موتنا المحددة يجعلنا قلقين على عمرنا إذْ لا ندري متى تكون اللحظة التي ينتهي عندها وينتهي قلقنا. فالقلق إذن ليس شعورا مَرَضيًّا. أي أنه حالة طبيعية من الاضطراب النفسي. هو كذلك، وشأنه شأن الخوف والحزن والندم... وكل الحالات المؤقتة التي نتميَّز بها لتقينا الشرور. فهب أنك لا تخاف، سوف تذهب لتعُدَّ أسنان الأسد وسوف يعدُّون عظامك بعد دقائق قليلة. وهب أنك لا تحزن، لن تدرك معنى السعادة، ولن تدرك معنى الحب، وسيستوي عندك أحَبُّ أحبابك وألَدُّ أعدائك. وهب أنك لا تندم، ستفقد ما يسمى الاعتذار وستفقد القدرة على تمييز الفعل النافع من الأفعال الضارة؛ فأنت بفقدانك الشعورَ بالندم لن تحسب حسابا لفعل يضر الآخرين ويجرحهم.. أو يضرك أنت ويجرحك. والآن، هب أنك لا تقلق. ستتبلَّد، وستهمل واجباتك، وستتخلى عن أهم ما تملك، ستفوِّت أوسع الفرص، وتضيع أجمل اللحظات. فالقلق وسيلة للعيش بطمأنينة!
القلق الطبيعي، وهو أيضا وسيلة للنجاة وتجاوز العقبات. ولكن القلق الذي هو وسيلة للهروب من البحث عن السبب والحل، والسؤال عن الحل والنتيجة، هذا النوع من القلق هو المُمرِض، وهو وجهٌ آخر للموت على فراش الحياة. تصبح به كطائر السَّمَنْدل الذي يعيشُ ويبيضُ بيضه في النار، ولا يحترق بها. ولكنك ستعيش في النار وتحترق بها؛ لأنك لست مخلوقًا خُرافيًّا. أنت إنسان.
وقد يكون قلقك بحثا عن سبب، ولكنه سبب وهمي لا وجود له، وقد يكون سؤالا عن حل، ولكنه حلٌّ مغشوش. تضطرُّ إليه لئلا تحس بألم العيشِ قلِقًا ومتوتِّرًا. وهذا القلق وهذا التوتُّر أخطر من أي قلقٍ وتوتُّر قد يشعر بهما إنسان في حياته؛ لأنهما يتلبَّسان لباس العقل والحكمة، وهما يأكُلان منهما. كالفايروس الذي يدخل في جسدك بلباس خلاياك الطبيعية؛ لينشر الألم والحمى فيك، ويقوِّض بُنيانك القوي، ويُخلِّفُك ضئيلًا ضعيفا تستلقي على الفراش، تتجرع مرارة الأدوية.. وتحس بلدغات الحُقَن.
فلا مانع من وجود قلقٍ ما، من أي شيء نخشاه، أو على أي شيء نحبه. بحيث نتجنَّب ما نخشاه، ونحافظ على ما نحبه بهذا القلق. لا لنقع فيما نخشى، ونفرِّط في من نحب.
كل شيء على ما يُرام.. التزم بهذه الحقيقة، ثم اقلق من الأشياء القليلة التي لا تُرام. ولا تعكس القاعدة. 


0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.