21‏/07‏/2015

اللهُ: عندما يكون الفنَّ والوسيلةَ





عائدٌ للتو من لقاء. ليس لقاءً يستحق الذكر بالتفصيل في نظر بعضكم، لكنه يستحقه في نظري. فدعوني أروِ لكم بعض ما لامسني من الداخل، بعضه وليس كله، فالكلُّ طويل ومرهق. الأجانب المظلومون قد يثيرون قريحة الشاعر للبكاء عليهم، أو ينحتون تفاصيل رواية في ذهن الناثر فيخلِّد ألمهم من حيث هو. وهذا قد لا يحدث تغييرا كبيرا في سطح الماء الهادئ. ما أطمح إليه هو أن يلهمنا هؤلاء المظلومون دروسا في نواحٍ أخرى في الحياة، وأقصد الفن.
الفن وسيلة للعيش -بالمعنى البيولوجي العلمي- فلا يكفي أحدنا أن يكمل دورته الدموية بسلام وينجو من خطر الظلام والأعداء ليبقى. أحجامنا كبيرة ومفرطة في ملء الحيِّز الضيق الذي نعيش فيه، لسنا بحجم فأرة ولا نواةٍ ضائعة في الهواء على شكل فيروس. لذا يتعين علينا أن نتفنن في أسلوب حياتنا وإلا سنفنى. كما أن الفن يحرك المياه الهادئة ويوصل الموجات حثيثةً إلى الضفة المقابلة.
ما إن نسمع كلمة (فن) حتى تنحشر في ذاكرتنا ووعينا قائمة أسماء طويلة، كلها أحدثت نمطا نظريًّا أو عمليا للفن وطورت الكلمة والفعل ومعنى كل منهما. هذا هو ما يجمع الفنانين من مختلف الفروع بسِيَر حياتهم الكثيرة.
لكن ماذا عن الفنانين الذين لم يكتبوا شيئا؟
إنهم موجودون، وهناك.. حيث ضرورة البقاء تشحذ همتهم وتعذب وجودهم، فيستحيلون آباءً مربِّين وقانعين، أو سارقين مجرمين أو مثاليين إلى درجة لا نستطيع إدراكها.
لم أدرك من قبل ماذا تعني الفنون الدينية كالدعاء والرضى وإلى أين تؤدي. أمثالي ليسوا بعيدين جدا عن إنكار الإله في أية لحظة وعبادة آفاق الحس الضعيفة. لكن غيري -أولائك الذين ليس لهم بدٌّ من القوة على العيش والسعادة- لا يمكن أن يفقدوا تفسيرهم الأوحد لكل ما يحصل.
قد يجوع أحد الفلاسفة فيؤلف كتابا يدحض فيه مسألة فلسفية تدرُّ عليه مالا وشهرة ومقاعد أنيقة في مقدمات الموسوعات. قد تلعب بنا الحالة المزاجية وتورطنا مع فهم مزاجي للقدَر والمصير وأشياء أخرى. لكننا نسير في النهاية على خطى نرسمها نحن ونشذبها، وأعني بأسلوب الجمع هذا كل من يملك أن يعيش بطريقة يحددها هو!
نظن أن المضطرين ضعفاء، وأن الاضطرار ضعف. والحقيقة هي أنه لا يضطر إلا القوي الذي نبذ كل الطرق غير المؤدية إلى قناعته، أقول قناعته ولست أقول نشوته الفكرية وأساتذته. كلامي متناقض ظاهريا، تعمق قليلا من أجلي، واترك الباقي إن شئت.
الاضطرار هو ما اختاره صديقي الأجنبي الذي يمارس الصبر في هذا البلد. لم يكف طول نصف ساعة حدثته فيها عن كلمات لا تتجاوز "أخي" "دعاء" "الله". كنت شاردا لوقت طويل بينما يستطرد في حساب ديونه التي لم يدفعها المرتاحون والمتنعمون بعد.
أقول: إنه يجمع أساليب الحياة الرئيسة، التواصل بين الفرد والفرد عن طريق الأخوة، والتواصل بين نفس الفرد وجامع كل الأفراد (الله) عن طريق الدعاء.
ليس مضيعةً للوقت فحسب، أن نصنع الخواطر العشوائية، بل مهلكة لمعنى الوجود. وأعني بالخواطر العشوائية هي طرد المساكين من ساحة التفسيرات ومحاكمة الفهم المتعسف للخلاص والعدل.
لست بحاجة كبيرة إلى معرفة متى حدث الانفجار العظيم بقدر ما أنا محتاج لإحكام التوافق بين النظام الكوني المذهل والعشوائية المتجاوزة للحدود. لا نستطيع أن نكون مؤمنين إلى حد المنافقة وندعي أن كل شيء واضح وعادل ولا ظلم فيه، على الأقل بالنسبة إلى إدراكنا الذاتي. مهما يكن هذا عادلا وواضحا ورحيما بالنسبة إلى غيرنا. الذي يجب أن نتفق عليه هو أن ثمة ما يصبغ هذه العشوائية بالنظام والحكمة. فقط! لأن المسألة يجب أن تتخذ طريقا آخر، فبدل أن نخشع لأصوات النظريات المختلفة في نشأة الكون وبداية الزمان، علينا أن نصنع أصواتا أكثر صدقا في التوفيق بين كوننا المنظم وحالاتنا الاقتصادية المتفاوتة جدا (هذا من باب التشجيع على النظر إلى المساكين والأغنياء من حيث هم في كون منظم وعادل، وليس من حيث هم مساكين وأغنياء).
بهذا نستطيع استعمال حجة الشر التي تباهى بها فيلسوفٌ إغريقي ذات مساء (أبيقور) في مصلحة رؤية صديقي الأجنبي لأهمية الله والدعاء المؤدي إليه.
فالفن عند هؤلاء هو الاضطرار ومحدودية الاختيار، ولنسمح لذاكرتنا بإدرار المزيد من الأشخاص الذين اضطروا فحققوا ذواتهم، إذ لا يخفى على أحد منا أن الروايات العالمية -مثلا- التي تباع في الأسواق بأسعارها الباهظة كتبها فنانون كانوا يصارعون البقاء كآخر ديناصور في العصر الطباشيري. يسعدني أن أذكر الكاتب الروسي دوستويفسكي مثالا شامخا.
كونٌ مرتَّبٌ جدا
وربطات عنق غالية تناقش روعة ومنطق الوجود خارج الأرض
وعندما تستريح خيالاتهم على ساحة التنوعات المدهشة،
يقول أحدهم: لا يوجد إله، لماذا العذاب والفقراء؟
فيرد عليه آخر: يوجد إله، لماذا النظام الشمسي والمجرات؟
ينسون أنهم يضعون الإله في الماضي السحيق ويدفنونه في النظريات
ألا يغنِّي أحدهم قائلا: الكون والفقراء هما الحجة عليكم أيها المترفون،
كونٌ مرتب جدا
وفقراء وأغنياء وقتلى وقتلة
ماذا يعني هذا غير أن نظامنا ليس آليا، وثمة الكثير.. الكثير؟

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.